بيروت في  2030  12-12

صديقي العزيز،

مسافاتٌ كثيرةٌ هي تلك التي تفصلنا. بحارٌ، أوديةٌ، جبالٌ و مستقبلٌ غامض و غدٌ مخيف...

إنه العام الثالت للحرب و ها أنا أجلس أمام أوراقي، أكتب لك رسالةً لا أعرف إن كنتُ سأستطيع أن أعبر الشارع لأضعها في مكتب البريد، ولست متأكدةً حتى إن كان مكتب البريد لا يزالأصلا ً قائماً.
أكتب لك وأنت منفذي الوحيد الى حياةٍ سرقوها مني، أكتب لك علّ كلماتي تحملني بعيداً من هذا الواقع المرير  فأحظى ولو لدقائق بوهم السلام.
مضى عامان على الحرب, لكن الدمار بدأ يلفنا بسرعةٍ جنونيةٍ منذ اليوم الأول. قد لاتعرف الشوارع يا صديقي إن أتيت. لقد دمروا كل شيئ. مضى عامان على الحرب، وأنا أسترق النظرات من نافذتي، أبحث بعيونٍ دامعةٍ عما تبقى، توقظني أصوات القذائف و طلقات الرصاص و صراخ الناس و صوت دعساتهم الهاربة من الشيطان المخيف.
أضحينا نعيش في عتمةٍ مطلقة، نغلق نوافذنا ونطبق على قلوبنا و نختبئ داخل صومعة خوفنا، عسى أن يكون ما نعيشه كابوساً نستيقظ منه مع أول شعاع شمس.لقد إختلفت حياتنا بشدةٍ يا صديقي، أصبحت أيامنا محكومةً بقوة السلاح, أصبح الحصول على الخبز حلماً نعيشه، فترانا نرقص بين نوتات الخوف بحثاً عن رغيفٍ. والمضحك أن بيروت التي لم تعرف يوماً النوم لا تزال كما هي، فهم نفسهم أبناءها الذين أغرقوها رقصاً و موسيقى و حفلات، هم الآن نفسهم يعزفون ألحان  موتها.
تعود اليّ كلماتك الان، كنت تقول لي أننا نحن المؤمنين ببلدٍ واحدٍ صحيح، أننا  نحن من تقع على عاتقنا مسؤلية القيام بالوطن. يومها يا صديقي بدت الحرب بعيدة، يومها كنت أظن أننا لانزال نملك الكثير من الوقت، يومها لم أكن أعرف أنه سيأتي ذلك اليوم الذي نفقد فيه تحكمنا بالوقت وأننا سنعيش سنيناً طويلةً في دوامةٍ نعجز عن الخروج منها.لا أزال أسمع كلماتك الرنانة عن أنظمةٍ لا تحكمها الطوائف و بلاد يسودها الأمن لا بصدفة القدر أو بقرارتٍ دولية إنما بإرادة شعبٍ أراد الحياة. أسمعك تخبرني أن الجهل لا يزال يلاحقنا حتى في الغربة، تصدمك تلك العقول الضيقة المحدودة. فتصرخ فيّ أن أثور. تقول لي أنها مسؤليتنا، أن تلك الشعوب التي قادت الثورات لا تختلف عنّا بشيء... ولكني كنت أنانية، أقنعت نفسي أنني مجرد نقطة ماءٍ في محيطٍ واسع و نسيت أن المحيط ليس سوى مجموعة قطرات.
إنه العام الثالت لحربٍ لا أعرف كيف بدأت. فجأةً رأيتهم يحملون السلاح، ينتشرون في الشوارع و على أسطح البنايات. فجأةً مرّ الموت محمولاً على الأكتاف و نصّبوه ملكاً على لبنان. فجأةً أصبح من حقهم أن يتحكموا بسنين عمرنا، أن يلعبوا بمصائرنا، فجأةَ أصبحت العقول الضئيلة تحكم عالماً تقرر فيه الغد.
أراهم أمامي يتقاتلون. عيونهم عمياء لا ترى، يحاربون بإسم الرب و الله وإسم المبجل، يقتُلون و يقتَلون. أراهم أمامي هم الذين تقاسموا في الأمس الخبز و مشوا سوياً على نفس الطرقات،أراهم اليوم يتحاربون. أراهم يدمرون غدهم و غدي.
يتوعدون...
يهددون...
ويقولون أنهم بإذن الله سينتصرون...
لكنهم لا يعرفون أن الله لا يحتاج الى الدم ليعيش و لا الى الموت ليقوى ولا الى الكره لينتصر.
وأنا أقف صامتة عاجزة. لا أعرف ماذا أقول و كيف أخبرهم أن الإنسان محبة، أن الدين عطاء و أن الجهل خطيئة.
لم تعد الدنيا كما كانت يا صديقي و أنا لم أعد أنا.
غداً أصبح بعيدأ  و لا أعرف إن كنت سألقاه. لا أعلم إن كنت ستقرأ مني رسالةً أخرى أو أن كلماتي هذه ستكون الأخيرة لك. لكن حين تمر السنين و يدركون كم كانوا مخطئين أخبرهم أنه في ذلك البلد المسلوخ  كان لك صديقة تؤمن بلبنان وطناً للجميع.

مع حبي